مؤلفاته:
كان الشيخ محباً للتأليف، يقول: إنه تشجع عليه لأمرين، أولهما: "أن المؤلف يحرص غاية الحرص أن يتعمق في المادة التي يريد التأليف فيها، فهذه فائدة عظيمة للمؤلف، أضف إلى ذلك أنه تعمق فيها وقيّد ما تعمق به في هذه المؤلفات، فستمكث في نفسه أكثر"، والأمر الآخر لتشجيع شيخه ابن سعدي كما تقدم.
ولكن نظراً لانهماك الشيخ في التدريس والفتوى والإرشاد غالب وقته لم يتمكن من الإكثار في التأليف، فكانت غالب مؤلفاته التي حررها إما من المذكرات الدراسية، أو رسائل ضئيلة الحجم غالباً، لكنها محررة ومفيدة[9]، وجُلّ آثاره التي بين أيدي الناس الآن هي مما فرّغه وجمعه تلامذته ومحبّوه من الدروس والفتاوى.
وقد نهض الشيخ آخر عمره لتحرير بعض كتبه المهمة ومراجعتها، وعلى رأسها كتابه العظيم: الشرح الممتع، ولكن توفي دون إتمامه، فتولى الأمر بعض تلامذته وغيرهم، والغالب خرج بإشراف اللجنة العلمية لكتب سماحته.
وساق الشيخ وليد الحسين أكثر من مئة عنوان من تآليف المترجم، غالبها كتيبات صغيرة وفتاوى، وأما كتبه الكبيرة المطبوعة فمن أهمها:
مجموع الفتاوى، في بضع وعشرين مجلداً.
الشرح الممتع على زاد المستقنع.
شرح رياض الصالحين.
شرح كتاب التوحيد.
شرح الواسطية.
شرح عمدة الأحكام.
شرح بلوغ المرام.
لقاء الباب المفتوح.
فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وهو من أقدم مؤلفاته، طبع سنة 1380.
تفسير القرآن.
شرح البخاري.
ونظراً لحسن تآليفه درّس بعضها كبار المشايخ، وفيهم من مشايخ المترجم، مثل سماحة الشيخ ابن باز، وشيخنا عبدالله بن عقيل، وكذلك بعض أقرانه، مثل شيخنا ابن جبرين، وأما من بعدهم فكثير، وأما كتابه مجالس رمضان فلا تُحصى المساجد التي قرئ فيها هذا الكتاب النافع.
وتُرجمت بعض رسائله لعدد من اللغات، وطبع منها نسخ كثيرة على نفقة المحسنين.
مرضه ووفاته:
كانت سنة 1420 سنة وفاة العلماء الكبار، وعلى رأسهم ابن باز والألباني، وكنت كغيري من محبي أهل العلم نعقد الآمال بأن يكون في بقاء الشيخ المترجَم عوض وجبران لفقد أولئك.
ولكن قدر الله غير ذلك، ففي تلك السنة بدأ الإعياء يظهر في سماحة الشيخ، وفي سنة 1421 تبين أنه مصاب بسرطان القولون، وبدأ يسري في جسده ويفتك به سريعاً.
ولما علم الشيخ بمرضه صبر واحتسب، ولم يغيّر شيئاً من نشاطه في التعليم والفتوى والخير، ثم لما علم ولاة الأمر بما أصابه ألحوّا عليه بالسفر إلى أمريكا للعلاج، فوافق الشيخ على طلبهم، وسافر.
وكانت أيام الشيخ العشرة التي قضاها في أمريكا عجيبة من حرصه على الوقت والإفادة لجموع المسلمين هناك.
رجع الشيخ إلى بلده للعلاج، ولم يتوانَ برغم المرض والتعب والنصب عن أمور الخير والإفادة، ذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن أن الشيخ واصل تسجيل حلقات سؤال على الهاتف وهو في سرير المستشفى، وذهب في رمضان إلى مكة، وواصل دروسه، إلى أن اشتد عليه التعب في التاسع والعشرين منه، وقال في ختام درسه ذلك اليوم: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. فذرفت العيون.
ومن الدرس نُقل الشيخ للعناية المركزة في جُدة، وما إن شعر ببعض التحسن حتى عاد ليلقي الدرس في الحرم عبر مكبر الصوت، وهو محمول وجهاز الأكسجين على فمه، ثم صلى العيد في الحرم، وبعد الظهر رجع للعناية المركزة، وقال الأطباء الذين أشرفوا عليه إنه كان كثير الصلاة، ولا ينقطع عن الذكر والدعاء حتى دخل في غيبوبة الموت، وتوفي رحمه الله تعالى عصر الأربعاء 15 شوال 1421 في المستشفى التخصصي بجدة.
وكانت وفاته مصيبة عظيمة حلّت بالمسلمين وأصابهم من جرائها من الحزن والأسى ما أصابهم، وصدر بيان من الديوان الملكي بوفاته، وتحديد الصلاة عليه في الحرم المكي عصر الخميس 16 من شوال.
وكانت الجنازة عظيمة مشهودة قدم لها الناس من مختلف مناطق المملكة، بل من خارجها أيضاً، وقُدّر المشيعون بنصف مليون إنسان، يتقدمهم كبار العلماء والمسؤولين، وصلى عليه الشيخ محمد السبيّل، ودُفن الفقيد في مقبرة العدل بجوار شيخه سماحة الإمام عبدالعزيز بن باز، رحم الله الجميع.
وصُلِّي على الشيخ صلاة الغائب في جميع أنحاء المملكة يوم الجمعة 17 من شوال، وفي عدد من البلدان، وفي عامة المراكز الإسلامية في أوربا وأمريكا.
وصارت وفاته حديثَ الناس والإعلام مدة، وكُتب عنه ورثي بالكثير والكثير، مما كان له أكبر الدلالة على ما حباه الله من قبول.
رحمه الله تعالى، وأخلف في المسلمين أمثاله، ونفع بعلومه.
من ثناء العلماء عليه:
قال شيخه سماحة الشيخ ابن باز في تقريظه لرسالة المترجَم في العقيدة: "أخونا العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين". ومضى الكلام على تقديره له، وتلقيبه له بسماحة الشيخ.
ولما سئل الإمام الألباني: من تعرف من العلماء الفقهاء المجتهدين في هذا الزمان؟ بدأ بسماحة الشيخ ابن باز، ثم ذكر ابن عثيمين، وشمس الحق العظيم آبادي، والمباركفوري، ولم يسمِّ غيرهم، وهذا مسجَّل متداول.
أما شيخنا عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل فقد سمعت منه ثناء كثيراً على المترجم، فسمعته يصفه بالشيخ العلامة، ويستشهد ببعض اختياراته وفتاويه، ويضرب به المثل بالفقه قائلاً: أُلين لعبدالرحمن العثيمين التاريخ والتراجم كما ألين لابن عمه الفقه.
ولما سألته عن تلمذة المترجَم عليه قال لي: من جهة أنا شيخ له، ومن جهة هو شيخ لي، فقد كنا نجتمع ونتباحث كل ليلة للتحضير لدروس شيخنا ابن سعدي، فأفيده ويفيدني، وهو كان ذكيا نبيهاً منذ صغره.
وسمعت شيخنا لما سئل عمن ينصح بالقراءة له من المعاصرين نصح بأربعة من كبار العلماء: ابن سعدي، وابن باز، وابن عثيمين، والألباني.
وقال سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ: "الشيخ محمد غفر الله لنا وله لا تخفى على الجميع مكانته وآثاره العلمية.. كان نعم الزميل، فقد كان رجلاً ذا علم وفضل ومناقشة وعدم اعتداد بالرأي إذا رأى الصواب".
وقال شيخي سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين: "نرجع نحن وغيرنا إلى مؤلفاته القيمة التي تعب فيها وحققها وجمع فيها كل ما حضر إليه، وكل مسألة كتبها تدل على عمق اختياره".
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: "عَلَم من أعلام العالم الإسلامي، له جهود كبيرة في العناية بالعلم ونشره وبذله وإفادة طلبة العلم، ألا وهو الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين.. والشيخ ابن عثيمين رحمه الله قد أخذ من العلم بحظ وافر، وبذل جهوداً عظيمة في نشره وإفادة طلاب العلم".
وقال: إنه لما كان يأتي المسجد النبوي ويلقي الدروس.."كان الطلاب يطلبون مني أن أوقف الدرس ليحضروا دروسه، فكنت أوقفها ليتمكنوا من الاستفادة منه، وكنت أحضر دروسه معهم في بعض الأحيان".
وقال: "للشيخ رحمه الله مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة، فقد رُزق القبول، وأحبه الناس، وحرصوا على سماع دروسه وفتاويه، واقتناء آثاره العلمية، وأشرطة دروسه ومحاضراته، وهو عالم كبير، وفقيه متمكن، وهو محل التوقير والإجلال من الولاة والعلماء وطلبة العلم، وكان من تقدير الولاة في هذه البلاد له أنهم عندما يزورون القصيم يزورونه في منزله، فقد زاره الملك خالد، والملك فهد، والأمير عبدالله، والأمير سلطان، وهو أهل للتوقير والاحترام، وهو مع ذلك من أشد الناس تواضعاً، ومحبة للخير، ونفعاً للناس، وإشفاقاً على الطلبة، وحرصاً على إفادتهم وتحصيلهم للعلم، وجمعهم العلم والعمل".
وهذا ضمن محاضرة مفردة عن حياة المترجم.
ويذكر الشيخ أحمد بن عبدالعزيز الحمدان أن جماعة من الشباب ذهبوا إلى مصر في مهمة رسمية، واختلفوا بينهم في بعض المسائل، فذهبوا إلى الشيخ عبدالحميد كشك رحمه الله، يقول: "فلما عرف أنهم من السعودية قال لهم: تسألونني وعندكم الشيخ محمد العثيمين؟! قالوا: يا شيخ تعرفه؟ قال: أنا أستمتع بسماع تأصيله العلمي في دروسه".
وسمعت شيخي الحافظ ثناء الله بن عيسى خان، مفتي أهل الحديث في باكستان، في محفل ختم صحيح البخاري في الكويت سنة 1428، بعد أن تطرق لحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فقال بعده عبارة أثرت في كثير من الحضور: "أين ابن باز؟ أين الألباني؟ أين ابن عثيمين؟ أين شيخنا الحافظ عبدالله الروبري؟ كان عديم النظير في زمانه؟ أين الحافظ الغوندلوي؟ أين حماد الأنصاري؟ لقد صار العلماء كما قال الحافظ الذهبي: كدت ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت التراب". هذا أو معناه.
ووصفه شيخي د. سعد بن عبدالله الحميّد، وهو تلميذه، بقوله: هو الإمام، شيخ الإسلام، فقيه هذا الزمان، الورع، العابد، الزاهد.
وقال الشيخ عبدالرحمن السديس -إمام المسجد الحرام وخطيبه- ضمن كلام طويل عال ومؤثر: "العلامة الجهبذ.. إنه أنموذج شامخ في التقوى والصلاح والزهد والورع، وعلم بارز في السنة، وقمة سامقة في العلم، وآية وحجة من حجج الزمان، وأئمة هذا العصر والأوان بفقده وأمثاله تنقص الأرض من أطرافها كما قال حبر الأمة ابن عباس.. لقد كان الشيخ رحمه الله مرجعية عالمية في الفقه والفتوى والنوازل، ولقد شهدت ذلك عن كثب إبان زياراتي الدعوية المتواضعة لأمريكا وأوربا، فقد كتب الله له القبول.. يعد الشيخ رحمه الله من بقية السلف الصالح، وإماماً من أئمة أهل السنة والجماعة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، فهو ممن قل نظيره، وممن جل أن ترى العيون مثله بلا مبالغة، لما حباه الله عز وجل، فهو موسوعة علمية وأخلاقية ودعوية ومنهجية يقل نظيرها، فهو أئمة في إمام، وأمة وحده، ونسيج بمفرده، وطراز مستقل، طالما نفع الله به، وذاع صيته وعلا قدره، واستفاد منه القاصي والداني، متميز المنهج، فذ العبقرية، معتدل الرؤى، متماسك الشخصية، متوازن النظرة".
هذه بعض النصوص المختارة في الثناء عليه.
ذريته وعقبه:
تزوج المترجَم ثلاث مرات، الأولى ابنة عمه، توفيت على إثر ولادة، ثم تزوج ابنة الشيخ عبدالرحمن الزامل العفيسان، لكن لم يستمر الزواج، ولم تنجب منه، وتزوج بعدها أم عبدالله بنت إبراهيم التركي، وأنجبت له خمسة من البنين، كما أن له ثلاث بنات.
وأبناؤه: عبدالله، وعبدالرحمن، وإبراهيم، وعبدالعزيز، وعبدالرحيم.
وزوّج ثنتين من بناته لطالبين من أبرز أصحابه، وهما الشيخ سامي الصقير، والشيخ خالد المصلح.
نسأل الله أن يبارك في ذريته، ويصلحهم، آمين.
من مصادر ترجمته:
أذكر فيما يلي أهم المصادر التي رجعت إليها في هذه الترجمة:
1) لقاء مع المترجَم في الإذاعة سنة 1403، وأعده أهم المصادر في الترجمة.
2) برنامج مرئي في القناة السعودية الأولى عن حياة المترجم، ومقابلات مع بعض تلامذته وعارفيه.
3) محاضرة للشيخ عبدالمحسن العباد -من أقران المترجم-، وطُبعت في كتيب بعنوان: "الشيخ محمد بن صالح العثيمين من العلماء الربانيين".
4) الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين: للشيخ وليد الحسين -من أصحاب المترجم- ولعله أجود ما قرأته عن الشيخ، واستفدت منه الكثير، وفي آخره جمعٌ حافل للمراثي التي قيلت فيه.
5) ابن عثيمين الإمام الزاهد: للشيخ الدكتور ناصر بن مسفر الزهراني، ويمتاز بجمع كثير من المقالات التي كتبت في المترجم، وبعضها متميز ومهم، استفدت منها كثيراً، إضافة لجمع المراثي.
6) مواقف وذكريت مع كبار العلماء: للأستاذ عبدالكريم بن صالح المقرن.
7) لقاء مطول مع أم عبدالله زوج الشيخ، في مجلة المتميزة العدد 45 سنة 1427.
لقاء مع المترجم ضمن سلسلة: "على طريق الدعوة"، من إنتاج تسجيلات التقوى، والفائدة المتعلقة بالترجمة فيه قليلة.
وهذه الترحمة كتبها الشيخ|محمد زياد بن عمر التكلة جزاه الله خيراً